أنا خايفة ياهند. خايفة قوي. خالد هيعيش مش كدة. طمنيني أبوس ايديكي.
ضمتها هند بين أحضانها بقوة تقول: خالد هيعيش ياصفية. صدقيني. مش بعد مالقيته هيروح مني. ربنا أرحم من كدة. خالد هيعيش. هيعيش.
وكأنها تطمئن نفسها بهذه الكلمات التي ظلت ترددها بصوت مرتعش هز كيانه ومزق قلبه، وجد طفلته تتمسك بيده فنظر اليها ووجدها خائفة بدورها. ضمها إلى جانبه لا يعلم كيف أحضرها إلى هنا ولكنه حقا لم يفكر حين استمع إلى الخبر لا يتخيل أن يفقد ابن عمته وصديق طفولته بهذا الشكل. لا. سيكون بخير. نعم. الله ارحم من أن يصيبهم بابتلاء كهذا. تناهي إلى مسامعه صوت شهقاتهما فطالع حبيبته بألم، يود لو فقط ضمها إليه كما ضم صغيرته فاحتوي الخوف والألم بين أضلعه بدلا منهما.
حضرت السيدة منيرة في هذه اللحظة تهرول تتبعها نبيلة حتى أصبحت أمامهم فقالت بانهيار تخاطب أدهم: خالد جراله حاجة؟ طمني ياابني.
أمسك بيدها قائلا: متقلقيش ياعمتي. خالد بخير. لسة مخرجش من العمليات بس هيكون بخير باذن الله.
جلست منيرة علي أقرب كرسي وقد عجزت قدماها عن حملها بينما تقول نبيلة بحزن: ياحبيبي ياابني. ليه يارب مكتوبلنا نقضي حياتنا في المستشفيات. أستغفرك ربي وأتوب إليك. سامحني يارب بس القلب تعب ومبقاش متحمل.
خرج الطبيب في هذه اللحظة فتعلقت العيون به ليقول كلماته باختصار يبغي بها طمأنة أهل المريض الواضح علي ملامحهم خوفهم: أستاذ خالد بخير متقلقوش. قطعة حديد كانت في جنبه خرجناها. الموضوع بسيط صدقوني ورعاية الله كانت معاه فممستش أي عضو هو بس فقد دم كتير وعوضناه بنقل الدم. حمد الله علي سلامته.
انطلقت الألسنة تحمد الله علي رحمته ولطفه وهل هناك من أرحم منه علي بني البشر.
كان ينام في سريره تحيطه عائلته التي تحمد الله علي نجاته، يبتسم لهم بوهن بينما يتحدثون عن الدقائق التي سبقت خبر نجاته وكيف مرت عليهم كدهر مرير اللحظات حين طرق الباب فسمح أدهم للطارق بالدخول. دلف الطبيب قائلا: حمد الله علي السلامة يابطل.
قال خالد: الله يسلمك.
كان يفحصه بينما يقول: الحمد لله. كله تمام. حضرة الظابط ممدوح برة محتاج ياخد أقوالك عن الواقعة. هتقدر ولا أخليه ييجي وقت تاني.
قال خالد: ملوش لازمة التأجيل خليه يدخل.
طيب من فضلكم ياجماعة تخرجوا عشان حضرة الظابط يقدر يقوم بعمله.
بدأو بالفعل الخروج من الحجرة حتى كادت صفية أن تخرج بدورها من الباب حين استوقفها الطبيب قائلا: خليكي انت ياآنسة صفية. الظابط أكيد محتاج ياخد أقوالك لانك كنت معاه في الحادثة.
نظرت صفية إلى هند التي ربتت علي كتفها قبل أن تغادر ليدخل الضابط إلى الحجرة يحييهم بعملية ثم يبدأ في إلقاء أسئلته علي مسامعهم.
كاد يخرج من الغرفة حين استوقفه صوتها وهي تناديه، استدار بوجهه فوجدها تمسك المرآة الصغيرة وتتطلع إلى وجهها تعدل من وضع شعرها قائلة: متنساش تجيب الحاجات اللي جلتلك عليها ياسي عادل، عايزة لمن نخرج النهاردة أكون كيف الجمر والكل يحسدك عليا.
طالعها بحسرة فبينما هي تهتم بنفسها وجمالها، ترغب في أن يحسده الجميع عليها. كانت هند توصله حتى الباب تمنحه قبلة ناعمة حانية تضيء يومه وتشعل حماسه للعمل، أخفي الحسرة بينما تتطلع إليه قائلة: واجف ليه إكده؟ عاوز حاجة؟
لأ معاوزش حاجة ياوردة.
خرج مغلقا الباب بينما تبتسم هي بسعادة قائلة: وبجيت عتتحدث بلهجتي ياسي عادل. ولسة راح تكون كيف الخاتم في صباعي وتبجي توريني نجية عتسوي إيه لمن نروج شجة تانية ونهملها المدعوجة دي تبجي فيها لحالها.
لتضحك بغنج بينما كان عادل يقبل يد أمه بالخارج تصحبه دعواتها فقال بتنهيدة: أيوة ياأمي ادعيلي كدة يمكن قلبي يرتاح.
مالك ياضنايا ايه اللي تاعب قلبك؟
كانت تعلم ولكنها اختارت أن تتظاهر بالجهل فالحقيقة مؤلمة وقد كانت ضلعا أساسيا فيما حدث له من ضياع.
مفيش ياحبيبتي خلي بالك من نفسك. ولو احتاجتي حاجة كلميني.
هزت رأسها بينما اتجه هو للخارج لتغرق عيناها الدموع تتساقط تباعا وهي تقول: سامحني ياابني، كنت السبب في خراب بيتك، لو كنت عرفت قيمتها كنت شلتها فوق راسي وخدمتها بعيوني لما تعبت. بس معرفتش قيمة الملايكة غير لما سكنت بيتي الشياطين. سامحني يارب الشيطان عماني وخلاني ظلمت واتجبرت وانتقامك عادل وهرضي بيه مهما كان.
تنهدت قبل ان تتجه إلى المطبخ لتقوم بمهامها اليومية تردد بحزن: الله يرحم أيامك ياهند ويرحمك لو كنت قابلت وجه كريم.
قالت صفية بحيرة: لما السواق مكانش شارب حاجة، ايه اللي خلاه يدخل بعربيته في عربية خالد بالشكل ده؟
قال الضابط: زي ماقلت لحضراتكم تقرير الطب الشرعي قال ان المرحوم كان في كامل وعيه ومفيش في دمه أي أثر لأي مخدر بس من أقوال حرمه ان دي كانت عربية الشركة اللي كان شغال فيها وقالت كمان انها كانت بتعاني من مشاكل في الصيانة والمرحوم حذرهم أكتر من مرة بس هم مااهتموش وهو مكنش معاه فلوس يصلحها لانه زوج وأب ل 3 أطفال فجازف بحياته وحياة غيره واستمر بسواقتها لحد ما قضاء ربنا نفذ ودي طبعا كانت غلطة كبيرة منه.
قال خالد بحنق: الغلطة الأكبر في شركة مهتمتش بصيانة عربياتها فبتضحي بأرواح الناس اللي واضح انهم ملهمش قيمة في نظرهم. يمكن السواق غلطان بس غلطته كان مجبر عليها عشان لقمة العيش، العيب علي اللي معاهم وبيغلطوا لطمعهم وجشعهم وقسوة قلوبهم.
وحضرتك ناوي علي ايه؟
هقاضي الشركة طبعا، والتعويض اللي هخليهم يدفعوه هديه لعيلة السواق. مش كفاية انهم فقدوا عائلهم والواضح ان الشركة مش هتعوضهم يبقي علي الأقل هخليهم ياخدوا منهم اللي يعيشهم العمر مرتاحين البال وهصرفلهم مرتب شهري كمان من حسابي الشخصي.
نهض الضابط قائلا باحترام: مش أول مرة أتعامل مع انسان محترم زيك ياأستاذ خالد بس ده المتوقع من أمة فيها الخير ليوم الدين. عن اذنكم. ده الكارت بتاعي. هسيبك ترتاح دلوقت ولما تخرج من هنا أتمني تشرفني بالزيارة ونكون أصدقاء.
الشرف ليا ياحضرة الظابط.
مد له يده قائلا: حضرة الظابط ايه بقي؟ اسمي ممدوح. ممدوح عبد السلام.
ابتسم خالد وهو يسلم عليه قبل أن يغادر الحجرة فحان من خالد نظرة إلى صفية فضبطها تطالعه بنظرة اعجاب وارتها علي الفور وهي تقول بارتباك: أنا هخرج اندهلهم.
أمسك يدها يمنعها فاضطرب جسدها بالكامل، بينما تطلع إليها قائلا بحنان: مش عايز اعتراف واحد مجنون فكر انه خلاص هيموت يخوفك. البني آدم ده افتكر انه مش هيشوف حبيبته تاني وكان عايز يعترف بمشاعره ليها ويقولها انها قدرت تملك قلبه وتسكن فيه لانها تستاهل تتحب. مكنش فاكر انه هيرجع للحياة وهيقابلها تاني وكل مايجمعها بيه مكان لوحدهم هتهرب منه.
صمت للحظة قبل أن يردف قائلا: أنا صحيح بحبك بس انت مش مجبرة تحبيني، انا كفاية عليا تكوني جنبي. قريبة مني. وقتها الكون ده كله بيبتسملي لكن لو هتبعدي وتبني بينا حواجز عشان الماضي يبقي ياريتني مت ولا…
وضعت يدها علي فمه تقول بلهفة: بعيد الشر عنك.
صمت يطالع عيناها بحيرة فرفعت كفها عن فمه قائلة بخجل: الراجل الحنين اللي زيك، اللي راح يعمل عملية خطيرة يتبرع فيها لاخته بنخاع عضمه من غير مايفكر رغم انه ميعرفهاش، اللي واخد باله من الكل وهمه بس سعادتهم، الراجل اللي لسة مسامح اللي كان هيموته لأ وهيحارب عشان يعوض أهله مستحيل ميتحبش.
يعني انت…
قاطعته قائلة: متستعجلش. أنا لسة منستش محمد، جوة قلبي ذكرياتي معاه ويمكن مقدرش عمري أنساه. بس الأكيد ان انت كمان ليك مكانة فيه ومكانة غالية. يمكن في يوم من الأيام أحس اني ممكن أكون معاك. ويمكن لأ. حقيقي مش عارفة ومش هقدر اوعدك بحاجة دلوقت. انت فاهم حاجة م اللي بقوله.
قال بحنان: فاهم ومقدر ومبسوط قوي. كفاية عليا فرصة تديهالي وأوعدك اني هقدر أوصل لقلبك وأملكه. هقدر أخليكي في يوم تشوفيني مكان محمد. علي فكرة انا مش زعلان ولا غيران. الحب قسمة ونصيب وانا متأكد إنك قسمتي.
طالعته بعيون ظللت مقلتيها ابتسامة، ليترك يدها علي الفور حين تناهي إلى مسامعه صوت خطوات تقترب قبل أن يدخل الجميع إلى الحجرة لتتراجع قليلا إلى الوراء ولكن عيونها ظلت أسيرته وستظل للأبد.
مش عايزكم تأخروا العرض. احنا علي ميعادنا. خلصوا انتوا التصميمات واعملولها الفينيش النهائي. وانا هظبط كل حاجة بالتليفون من هنا. أدهم متنساش جايلك بكرة مجموعة من الموديلز عشان العرض اختار من بينهم. عايزين وشوش جديدة ومختلفة. عشان المجموعة المرة دي مميزة بجد.
وليه مختارش بينهم أنا؟
هل ظهرت الغيرة بنبراتها حقا أم يهيأ لها؟ لا ليست تهيؤات. انهم يطالعونها الآن وكأن هناك قرونا قد نبتت لها، لتقول بارتباك: يعني. أصل أنا اكتر واحدة عارفة تصميماتي ممكن تليق علي مين من البنات، ده غير إن ادهم بكرة مش فاضي، انت مش قلتلي هتروح لمدير الفندق عشان تحجز الصالة اللي قلتلك عليها.
طالعها بغموض قائلا: فعلا انا كنت لسة هقول لخالد.
لينظر لخالد مردفا: انا كنت لسة هقولك اني مش فاضي بكرة فعلا وانك تخلي هند تشوفهم.
نقل خالد نظراته بين الاثنين قائلا: مش فاضي. طيب تمام. اللي تشوفوه.
تهربت هند من نظرات أخيها قائلة: طيب هستأذن دلوقت عشان اتأخرت علي منار، خلصت فستان السهرة الأولاني وعايزاني أشوفه. صفية هحتاجك بكرة معايا في فستان الفرح.
هزت صفية رأسها قائلة: تمام هتلاقيني من بدري بخبط عليكي عشان نروح الشغل مع بعض.
ابتسمت بارتباك وهي تقول: طيب. سلام دلوقت.
استني ياهند هوصلك وأرجع آخد صفية البيت.
ليقول لخالد: سلام ياخالد. مش هتأخر عليكم.
هز خالد برأسه فغادر ادهم لتقول صفية بحيرة: انت فاهم حاجة؟
هز رأسه ايجابا فاردفت: طب ماتفهمني.
هند بتحب.
اتسعت عيناها بدهشة فأردف قائلا: ومش هتصدقي بتحب مين؟
ازدادت عيناها اتساعا فهز رأسه بابتسامة لتقول بحيرة: معقول. من امتي؟
مش عارف بس كويس اني عرفت؟
متضايق؟
بالعكس. مكنتش هتمني لهند أحسن من أدهم والعكس طبعا.
هزت رأسها موافقة ليقول مشاكسا: وبعدين اهو كدة بعد عن سكتك ومبقتش أخاف ياخدك مني.
خالد.
قالتها باستنكار فتنهد قائلا: قلب خالد وعمره كله.
احنا اتفقنا علي ايه؟
اتفقنا أستناكي بس ده مش معناه اني معبرش عن مشاعري كل، تقريبا خمس دقايق.
لأ انت اكيد سخنت تاني وانا هروح للدكتور ييجي يطمنا عليك.
أمسك يدها يمنعها قائلا بابتسامة: خلاص ياستي بهزر. خليكي بس جنبي قبل أدهم مايرجع ويبعدك عني. حقيقي بقي يوجعني بعدك حتى لو عارف انه لساعات.
لم تسحب يدها من يده ولم تشيح بنظراتها خجلا بل اكتفت بالجلوس جواره والتطلع إليه تجذبها مقلتيه الدخانتيين تشعر بالغرق فيهما وحقا لا تبالي.
طالع باب المنزل بتردد. لا يدري ماذا يفعل وكيف قادته قدماه إلى هنا؟ هل أراد الاطمئنان عليها؟ بأي حق يفعل وقد سلبته أفعاله كل الحقوق؟ ليكن صريحا مع نفسه. لقد افتقدها حقا. افتقد دفئا غاب عنه ماان غابت عن حياته. افتقد حنانا واهتماما طواهم النسيان في نفس اللحظة التي غادرت فيها منزله. افتقدها هي. كلماتها. ابتسامتها. النوم بين ذراعيها قرير العين، كانت رقيقة مفرطة الشعور أبسط الأشياء ترضيها. عفوية دافئة لا مثيل لها. كيف نسي لها كل هذا وتمسك بأخطاء تافهة؟ ليعترف مجددا. كان أضعف من ان يتحمل مسئولية مرضها وعلاجها. وجد نفسه تشمئز من نفسه. لقد اتضح أنه قبيح من الداخل رغم وسامة المظهر. وقد عاقبه الله بحرمانه من طفل يحمل اسمه، كانت هند لتقبل عجزه دون أن تمس كرامته بينما تطأ وردة جرحه بقسوة كلما عارضها فتطأ كرامته ورجولته وللأسف يجد نفسه عاجزا عن الرد وقد أغرقه والدها بأمواله حتى صار مدينا له بالكثير، نعم صار لديه رأس مال كبير لعمله ولكنه فقد كنزه. غاليته هند. تري ان تخلي عن كل هذا. هل تقبل بعودتها إليه؟ يجب ان يتأكد اولا والا خسر كل شيء. طرق الباب بحزم.
مين اللي بيخبط؟
أطلت السيدة رقية من الباب الجانبي تطالع هذا الرجل الذي توقف أمام منزل جارتها نبيلة، ليقول عادل بهدوء: انا عادل ياست رقية.
نظرة الاحتقار بعينيها أخبرته برأيها في أفعاله بينما تقول: عارفاك ياأخويا. خير جاي ليه؟
تنحنح بحرج قائلا: احمم جاي للست نبيلة هي مش موجودة؟
آه مش موجودة. من كام شهر كدة خدت بناتها ومشيوا.
قطب جبينه قائلا: مشيوا؟ مشيوا راحوا فين؟
قالت بحدة: وانا اش دراني ياجدع انت. هو تحقيق؟ أما بجاحة صحيح؟
لتدخل منزلها وتصفع الباب في وجهه فتمني لو انشقت الأرض وابتلعته. ولكنه تمالك نفسه وجر قدمه جرا يهبط الدرج بحزن وهو يتساءل عن مكانها الآن وإلي أين رحلت هند؟ وهل قدر لهما الفراق للأبد ام قد تلتقي الوجوه مرة أخري؟ تمني لقائها وياليته لم يتمني فلو علم بمكنون قلبها الآن لتمني الموت قبل اللقاء وقد صار لا شيء بالنسبة إليها.